مدرين المكتومية
لكل مهنة ضغوطها وأعباؤها، لكن بدرجات مُتفاوتة وحسب طبيعة كل عمل وكيفية التعاطي والتعامل معها. لكن كون المرء يعمل في مجال الإعلام؛ فهو مدركٌ تمامًا أنه يحمل رسالة ويؤدي عملًا رساليًا بامتياز؛ فالقارئ أو المُستمع أو المُتابع ينتظر الأخبار أن تأتيه، ربما حتى قبل وقوع الحدث!
لماذا أقول ذلك، وربما هي حقائق يعلمها الكثيرون؟ أقول ذلك لأؤكد مدى أهمية دور قطاع الصحافة والإعلام باعتباره "سُلطة رابعة" كما اصطُلح عليه، وله تأثيره المباشر والواضح ليس فقط في كونه وسيلة لنشر الأخبار، وإنما لأنه وسيلة لتشكيل الرأي العام وصناعة الوعي المجتمعي، فكل وسيلة إعلامية هي منبر لطرح الأفكار وكشف الحقائق وتعزيز الحوار.
وعلى عكس الكثير من القطاعات التي تقاس أهميتها بمدى قدرتها على الربح، إلّا أن الإعلام لا يُمكن اعتباره بأي حال من الأحوال، تجارةً مُدِرَة للأرباح، بل إنه قطاع خدمي بالدرجة الأولى، ولا ينتظر مقابلًا لهذه الخدمات، حتى لو نظرنا إلى الـ200 بيسة ثمن النسخة الورقية من الجريدة، فهو سعر لا يُمثل سوى جزء يسير جدًا من تكلفة الطباعة، فما بالُنا برواتب الصحفيين والمحررين والمخرجين والمنفذين والموظفين في مختلف الأقسام من المبيعات إلى التوزيع والاشتراكات، ومن المالية إلى الموارد البشرية؟!
ووسائل الإعلام على اختلاف طبيعتها متخصصة فقط في تقديم خدمة صحفية وإعلامية للمُتابع، دون مقابل مادي، خصوصًا وأنَّ فكرة الاشتراكات المالية المنتشرة في بعض وسائل الإعلام في أوروبا وأمريكا، غير قابلة للتطبيق، لاختلاف النموذج الاقتصادي والفكري، علاوة على أنَّ هذه الوسائل الإعلامية لا تعتمد على الاشتراكات وحدها، بل لديها الإعلانات والدعم من مؤسسات حكومية أو شبه حكومية وحتى من القطاع الخاص. ففي بريطانيا على سبيل المثال، تجد الصحف الموالية لحزب العمال تحصل على تمويلات من هذا الحزب والمؤيدين له، وكذلك الحال بالنسبة للصحف الموالية لحزب المحافظين. والأمر لا يختلف في الولايات المتحدة، فالمحطات الإخبارية مثل "سي إن إن" و"فوكس نيوز" أو الصحف مثل "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، جميعها تتلقى الدعم بصور وأشكال مختلفة، وللموضوعية هو شكل من أشكال الدعم السياسي، فلكل صحيفة ووسيلة إعلامية توجهها الداعم أو الرافض لهذا الحزب أو ذاك.
وعلى المستوى الإقليمي، إذا ما نظرنا إلى الصحف الكبرى مثل الشرق الأوسط السعودية أو البيان والاتحاد في الإمارات، والأهرام في مصر، سنجد أنَّها تعتمد على تمويل حكومي مباشر أو غير مباشر، لضمان أداء رسالتها ودورها. وفي المحطات الفضائية حدِّث ولا حرج؛ إذ لا تجد أي قناة فضائية إخبارية عربية كبرى إلّا وهي ممولة من حكومة بلادها؛ بما يُساعدها على أداء رسالتها والأهداف المرجوة منها، خصوصًا وأنَّ سلاح الإعلام أثبت مدى دوره الفاعل في تشكيل الرأي العام؛ بل وفي ترجيح كفة المنتصر في الحروب والصراعات.
وبالنظر إلى أوضاع الصحافة والإعلام في سلطنة عُمان، نكتشف أنَّ الإعلام العُماني بنسبة 80% قطاع خاص، إذا ما استثنينا جريدة عُمان الحكومية وتلفزيون عُمان، أما بقية الوسائل الإعلامية فهي تتبع مؤسسات خاصة مملوكة لأفراد يؤمنون بدور الصحافة والإعلام، ويمولونها من أموالهم الخاصة، بجانب بعض العائدات القليلة للغاية من الإعلانات والاشتراكات. وفي ظل الأوضاع التي تمر بالمؤسسات الصحفية العُمانية نتيجة العديد من العوامل الاقتصادية والتكنولوجية وغيرها، تجد هذه المؤسسات نفسها في وضع صعب للغاية، فهناك مؤسسات لا تستطيع دفع رواتب صحفييها بالكامل، والبعض يحصل على راتبه على دفعتين أو ثلاث وربما أربع دفعات! أضف إلى ذلك عدم قدرة هذه المؤسسات على التطوير، وتنفيذ التحول الرقمي في الإعلام، لغياب التمويل اللازم لشراء الأجهزة المستخدمة ورخص البرمجيات والمعدات وآلات التصوير والتسجيل، فضلًا عن عدم قدرتها على تنفيذ دورات تأهيلية للصحفيين والعاملين فيها.
وبينما كانت الإعلانات وبعض الاشتراكات، توفِّر جزءًا من نفقات المؤسسات الصحفية، أصبحنا نُواجه مصاعب هائلة في تدبير الحد الأدنى من النفقات، مع تراجع الإعلانات بسبب أوضاع السوق الاقتصادية، كما إنَّ الاشتراكات هبطت بنحو 60%، لدرجة أنَّ هناك وزارات تضم عددًا كبيرًا من الإدارات، تشترك فقط في عدد أو اثنين!!
ولذلك نؤكد، ومن مسؤوليتنا الوطنية والإعلامية، أنَّ عدم قدرة المؤسسات الصحفية والإعلامية على العمل، يعني أننا ببساطة شديدة نُتيح المجال للمُضللين وهواة الإثارة حتى لو على حساب المصداقية والمهنية، ونساعدهم على الانتشار في المجتمع، وإشاعة الفوضى الإعلامية، من خلال التركيز على ما يُثير الناس ويؤجج المشاعر وينشر الإحباط واليأس.
الإعلام الوطني المسؤول هو ذلك الإعلام الذي يُناقش قضايا المجتمع بكل مسؤولية ورقابة على الذات وأمانة في الطرح، لكن- بكل وضوح- هذا الإعلام لن يكون قادرًا على المواصلة والعطاء في ظل غياب المورد المالي، وفي ظل التراجع الحاد في الإعلانات والاشتراكات، ما يضع عملية صناعة الوعي المجتمعي على المحك، على الرغم من التحذيرات المتواصلة مما يُحاك بمنطقتنا العربية- ونحن منها- من مؤامرات ومخططات تستهدف تغييب الوعي وتسطيح المعرفة، وصناعة التفاهة ونشر المحتوى الإعلامي الهابط.
لقد حان الوقت لنقول بأعلى صوت "أطلقوا المدافع الإعلامية" لكي تذود عن حياض الوطن بالكلمة الصادقة والخبر الصحيح، امنحوا المؤسسات الصحفية والإعلامية قُبلة الحياة، من خلال توفير التمويل والدعم اللازمين لاستمرار عملها، وتحوُّلها رقميًا بالكامل، ولا تسمحوا للمُغرضين ومُثيري الفتن وصانعي التفاهة أن يعيشوا بيننا ويقتاتوا على حساب وعي المواطن وأمن الوطن واستقراره.